اقرت العام الماضي موازنة العام 2017 و صدر القانون رقم 66 تاريخ 3/11/2017 ونشر في الجريدة الرسمية عدد 52 بتاريخ 7/11/2017. وذلك بعد احد عشر عاما مرت على البلاد دون موازنة سنوية وعشرة اعوام بدون موازنة اثني عشرية، جبيت خلالها الضرائب والرسوم، وصرفت الاموال العمومية بدون مسوغ شرعي، فلا اذن صدر عن مجلس النواب، ولا قاعدة قانونية او دستورية أتاحت للسلطة هذه الجباية وذلك الانفاق.
و بالرغم من ان قانون هذه الموازنة يخالف احكام الدستور ولا سيما المادة 87 منه التي ربطت ربطاً محكماً بين نشر قانون الموازنة وبين عرض حسابات الادارة المالية النهائية (قطع الحساب و حساب المهمة)على مجلس النواب ليوافق عليها قبل نشر الموازنة، فانه لا يخفف من هذه المخالفة، الفتوى التي افتى بها مجلس النواب لنفسه حول الحسابات المالية منذ عام 1992 وحتى سنة 2015 ضمنا بنشر قانون الموازنة "على سبيل الإستثناء و لضرورات الانتظام المالي العام" واوجبت على الحكومة "انجاز عملية انتاج جميع الحسابات المالية المدفقة" عن الفترة المذكورة خلال فترة سنة تبدأ بتاريخ 7/11/2017 و تنتهي في 6/11/2018، واحالة مشاريع قوانين قطع الحساب عن السنوات التي لم تقر فيها الى مجلس النواب، عملاً بالاصول الدستورية والقانونية المرعية. وعلى قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" فإن مجلس النواب و الحكومة و فخامة رئيس الجمهورية اعتبروا ان اعداد موازنة الدولة واقرارها ونشرها هي من ضرورات الانتظام المالي العام ونحن من الموافقين على ان موازنة الدولة موجب دستوري وقانوني وهي قاعدة بناء الدولة، فقد نص عليها دستور البلاد و قوانينها.
مسار الإنتظام المالي العام لم يبدأ بعد
اذا سلمنا بهذه الضرورة التي اباحت نشر موازنة العام 2017 دون التصديق على الحسابات المالية النهائية للدولة حتى العام 2015 فإنه من حقنا ان نسأل:
ماذا عن موازنة الدولة للعام 2018؟
وماذا عن الانتظام المالي العام بعد نشر موازنة العام 2017؟
وهل بدأ الالتزام بهذا الانتظام؟
ان الوقائع التالية تؤشرالى ان مسار الانتظام المالي العام لم يبدأ بعد:
فبالنسبة الى تقديم مشروع الموازنة الى مجلس الوزراء فان المادة 17 من قانون المحاسبة العمومية اوجبت على وزير المالية ان يقدم مشروع الموازنة الى مجلس الوزراء قبل اول ايلول مشفوعاً بتقرير يحلل فيه الاعتمادات المطلوبة والفروقات الهامة بين ارقام المشروع وبين ارقام موازنة السنة الجارية (2017) ولغاية تاريخه لم يتم هذا الموجب .
وبالنسبة الى احالة مشروع الموازنة الى مجلس النواب فقد اوجبت المادة 18 من قانون المحاسبة العمومية على مجلس الوزراء ان يقر مشروع الموازنة في صيغته النهائية وان يودعه السلطة التشرعية ضمن المهل المحددة في الدستور. كما اوجبت هذه المادة على وزير المالية ان يقدم الى السلطة التشريعية قبل اول تشرين الثاني، تقريرا مفصلا عن الحالة الاقتصادية والمالية في البلاد وعن المبادئ التي اعتمدتها الحكومة في مشروع الموازنة، ولغاية تاريخه لم يتم الالتزام بالموجبات الثلاث المذكورة.
اما الدستور فقد اوجب في مادته الثالثة و الثمانين على الحكومة بان تقدم في كل سنة في بدء عقد تشرين الاول لمجلس النواب موازنة شاملة نفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة. وايضا لم يتم التزام بهذا الموجب فقد بدء العقد العادي وكاد ان ينتهي والموازنة ما زالت في وزارة المال.
اذاً لم يبدأ مسار الانتظام المالي العام، البعض يبرر ذلك بالازمة السياسية الناتجة عن استقالة رئيس الحكومة قد يكون ذلك صحيحا، ولكن الحمدالله انتهت الازمة وعادت مياه العمل الحكومي الى مجاريها العادية فهل نشهد جهدا وزاريا وحكوميا مطلوبا لانجاز موازنة الدولة للعام 2018؟
نأمل ذلك، ولكن نخاف من ان تطمئن الحكومة الى ان اقرار موازنة العام2017 كان انجازا يسمح لها بالبناء عليه بمعنى انها تستطيع في حال عدم اقرار موازنة العام 2018 ان تتصرف بمقدار قدره حوالي 25000 مليار ل.ل من المال العام على اساس القاعدة الاثني عشرية، دون ان يتهمها احد بخرق الدستور او مخالفة القانون، ودون ان يكرهها احد على انجاز الحسابات المالية المنصوص عليها دستورياً لان مجلس النواب منحها مهلة سنة وقد تتجدد اذا ما استجدت ظروف سياسية يمكن استخدامها كاسباب تبريرية.
لبنان لم يعد يحتمل الجمود المالي والاقتصادي
لكن العودة الى عدم انتظام المالية العامة وتأخير اقرار موازنة العام 2018 له كلفة اقتصادية باهظة، فالبلاد لم تعد تحتمل الجمود المالي والاقتصادي فهما بحاجة الى التفعيل والحيوية ولا يكون ذلك الا بخطة اقتصادية مالية ذات اهداف مالية واقتصادية واجتماعية واضحة تحقق بها بالوسائل المالية المناسبة واهم هذه الوسائل وايسرها موازنة الدولة.
وخلافا للسنوات العجاف الماضية التي مرت على البلاد بدون موازنة تعبر عن خطة الحكومة الاقتصادية والاجتماعية التي لم تكن موجودة، الامر الذي ادى الى تفاقم المشكلات المالية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد فإن عام 2018 يجب ان يكون بداية الخطة التي تنقذ البلاد. فموازنة العام 2018 كانت تقتضي ان تقر قبل نهاية العام الماضي وعلى ابعد تقدير في الشهر الاول من عام 2018 ويقتضي ان تعبر عن خطة الحكومة لمعالجة المشاكل التالية:
-تفاقم الدين العام وخدمته وتأثيره السلبي على الاستثمار.
-النظام الضريبي وسوء توزيع العبء الضريبي وانخفاض حصيلته الضريبية.
-تنمية قطاعي الزراعة و الصناعة وتخصيص الاعتمادات اللازمة لتطوير البنى التي من شأنها خفض واردات البلاد من السلع والخدمات وزيادة قيمة الصادرات وبالتالي تقليص الفجوة في الميزان التجاري.
-تخصيص الاعتمادات لإعادة بناء البنى التحتية ولا سيما الكهرباء والمياه والاتصالات والجسور والطرق والسدود، وكل ذلك يؤدي الى بناء بيئة استثمارية ملائمة للاستثمار الوطني و الاجنبي في لبنان.
-اعادة النظر بهيكلية الادارة العامة في لبنان وبناء القدرات البشرية وانمائها بحيث يتم التخلص من الفائض واعتماد الكفاءة والجدارة وفتح باب التوظيف على هذا الاساس و ليس على اساس اخر.
فلتكن موازنة العام 2018 جاهزة في بداية العام و لتكن هذه الموازنة الاداة المالية الاولى والخطوة الكبرى في مسار الانماء والتنمية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية.
مدير المؤسسة اللبنانية للخدمة الضريبية
المدير السابق للمحاسبة العامة في وزارة المالية
النقيب الاسبق لخبراء المحاسبة المجازين في لبنان
امين صالح