تجدد موعد اللبنانيين في نهاية عام 2014 مع رواية "الفساد الغذائي" التي كانوا قد تابعوا فصولها في آذار 2012 حين تم الكشف عن أطنان من اللحوم وكميات كبيرة من حليب الأطفال والمعلبات والسكاكر الفاسدة. ففي تشرين الثاني الماضي بدأ وزير الصحة وائل أبوفاعور حملة كشف واسعة على الأسواق اللبنانية كافة ليعلن عن فضائح بالجملة طاولت أسماء محال وسوبرماركات ومطاعم شهيرة، ليفاجئ اللبنانيين بحقائق مخيفة كان أبرزها الكشف عن "بقايا براز بشري ومياه مجارير" في طعامهم.
أتت حملة أبوفاعور "ككرة ثلج" كبرت وكبرت وتدحرجت حتى حركت الوزارات الأخرى والهيئات الاقتصادية والجمعيات المعنية على أمل أن يتم التوصل الى نهاية سعيدة لهذه الرواية المخيفة التي تهدد صحة اللبنانيين في مختلف أعمارهم وفئاتهم. فمنذ عامين، حصل استنفار حكومي استدعى جلسة وزارية عاجلة، شكل من خلالها لجنة وزارية طارئة لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ووضع الخطوات الرادعة لذلك، وخلصت الى سلة مقررات من بينها إجراء مسح شامل لكل المستودعات والمصانع والمسالخ والمزارع والمطاعم ضمن خطة بالتعاون بين الوزارات المعنية، وجرى اقتراح تعديل قانون حماية المستهلك لناحية التشدد في العقوبات، كما أعدت الحكومة مشروع قانون حول سلامة الغذاء، نال موافقة غالبية الوزراء، إلا أن استقالتها لم تسمح بإحالته إلى المجلس النيابي". واليوم تكرر المشهد لكن بصور أسوأ، حيث تم الإعلان عن وجود عدد كبير من البكتيريا الخطيرة في الطعام، وهي "الإيكولاي والسالمونيلا والليستريا بالإضافة الى التوتاكوليفورم". وبحسب الخبراء يمكن أن تصيب "السالمونيلا والإيكولاي" اللحوم والخضار، أما "الليستريا والتوتاكوليفورم" فتلوث اللحوم فقط. ومن شأن هذه البكتيريا التسبب عندما تصل إلى الإنسان من طريق الغذاء الملوث، بأعراض التسمم الغذائي من تقيؤ وألم في البطن والأمعاء وارتفاع في الحرارة. ولفت الخبراء الى وجود أشكال من "السالمونيلا" أخطر من غيرها، وقد تؤدي إلى "الوفاة لدى الأطفال والمسنين والمصابين بالأمراض المزمنة". وأشاروا الى أن "الليستريا"، التي أثبتت الفحوصات وجودها في بعض اللحوم، "خطرة، خصوصا على المرأة الحامل لأنها تؤدي، بنسبة 75 % إلى وفاة الجنين خلال فترة الحمل، أو لدى ولادته، وفقاً للحالة".
وأعلنوا أن "التوتاكوليفورم" تأتي من مياه الصرف الصحي وتصيب اللحوم والأجبان والألبان. وتتسبب إضافة إلى أعراض التسمم العادية، ولدى تكرار الإصابة بها، بأمراض سرطانية في الأمعاء". ما يفسر جزئيا ارتفاع ضحايا السرطان في لبنان، وحسب منظمة الصحة العالمية التي أشارت إلى زيادة الأمراض بنسبة وصلت إلى أربعين في المئة بين عامي 2007 و2011".
أبو فاعور أعلن استمراره بالحملة حتى النهاية مؤكداً أنه " لا يؤخذ بالأموال أو الترهيب، ولكنه ينفذ القانون"، ليبقى السؤال هل سينجح في إخراج هذا الملف من دائرة الحلول المؤقتة الى الحلول الجذرية؟
الأسئلة الكبرى
وصف رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو تعامل الحكومة مع ملف فساد الغذاء " بالبداية الطيبة" ورأى في حديث لـ "الصناعة والاقتصاد" أن "استمرار الحملة بحد ذاته مدخل صحيح لطرح الأسئلة الكبرى ولتوعية المواطنين حول أمور أكبر بكثير من سلامة الغذاء". وقال: " نعرف تماماً أنه في الماضي حصلت حملات ضد فساد الغذاء نظفت السوق لفترة لكنها لم تصل الى إقرار قانون لسلامة الغذاء. وحتى الآن، لا نعلم إن كان سيحصل تأجيل أو تهدئة تعيد الأمور الى ما كانت عليه في السابق".
وفي رد على سؤال حول المسؤولين عن فساد الغذاء المنتشر في لبنان، وصف برو لبنان " ببناية بلا سقف ذات شبابيك مخلعة يعمها الخراب". وأضاف: " عندما تغيب الأسس والأطر العامة لسلامة الغذاء ستظهر مشاكل الفساد في كل القطاعات. واليوم ليستطيع أن ينتج بلد غذاء سليما يحتاج الى تطبيق انظمة سليمة تراقب الطريق التي تسلكه البضائع من المستورد أو المنتج الى المستهلك، وأي خلل في مراقبة هذه الطريق يؤدي الى النتيجة التي رأيناها".
وتابع: " النظام السياسي اللبناني لا يحكم من أجل الأخلاق والضمير والدين بل من أجل تأمين مصالح فئات طائفية معينة. وفي الواقع، تمسك هذه الفئات بمفاصل وتركيبة البلد، وتتحكم بجوانب الاقتصاد والاجتماع كافة من دون أي استثناء، وتفصّل القوانين على قياسها. وكنتيجة لهذا الواقع، تم تجويف قوانين عديدة منها قانون حماية المستهلك فالمجلس الوطني لحماية المستهلك تم إلغاء وتهميش دوره حيث اجتمع 3 أو 4 مرات ولم يتخذ أي قرار منذ 10 سنوات. وكذلك محكمة المستهلك التي تم تعيينها عام 2005 ولم تعقد أي اجتماع".
الفساد ليس استثناء
ورأى برو أن الحل لا يمكن أن يكون إلا ضمن "دولة القانون"، مؤكداً أن "لبنان ليس بلداً مهملاً ينتشر فيه الفساد إنما بلد منظم تماماً لخدمة مصالح محددة. ولهذا لا يمكن انتظار حلول عادلة وجدية لمشاكل الغذاء، فهذا الأمر لا يمكن أن يحصل إلا بالقوة والضغط المستمرين".
وعما إذا كان متفائلا بانتهاء زمن فساد الغذاء في لبنان، قال برو: " برأينا حملة الوزير أبوفاعور كبيرة ومن شأنها هز كيان الفساد، لكننا لا نعلم إن كانت ستوقفه. فالفساد في لبنان أصبح قاعدة وليس استثناء إذ يتمتع بمداخل عديدة تنتشر في كل لبنان".
وأشار الى أن "الضغوط التي تعرضت وستتعرض لها الحملة كبيرة جداً إذ إنها مست بأمر جوهري في النظام اللبناني تستفيد منه مجموعات كبيرة. وقيام قانون حديث وجدي لسلامة الغذاء سيكلف تلك المجموعات 30 الى 40% من أرباحها، ليبقى السؤال هل ستتخلى تلك المجموعات عن هذه الأرباح؟
كلام هوائي
ووصف برو كلام منتقدي توقيت حملة أبو فاعور بـ"الهوائي"، وقال: "هذا الكلام لا يعني إلا القول "أتركوا الأمور تسير كما كانت، لماذا إزعاج منظومة الفساد؟".
وتعليقاً على كلام وزير السياحة ميشال فرعون بأن " التسمم الغذائي في لبنان هو أدنى من أي منطقة"، قال: "ربما الوزير لا يعلم أن نسبة زيادة الأمراض السرطانية في السنوات الثلاث السابقة بلغت 40%، وربما لم يطلع على معدل الحياة في لبنان والذي يقل عن معدل الحياة في أوروبا بين 10 و 15 عاماً".