أهداف متعددة لـ "آسيان ـ شنغهاي ـ بريكس ـ أوراسيا"
أي دور للتكتلات الاقتصادية في صياغة النظام العالمي؟
لطالما طرح المراقبون على المستوى الدولي تساؤلاتهم المشروعة حول ما يمكن أن يتطلبه نجاح التكتلات الاقتصادية الإقليمية والدولية من مقومات وشروط مناسبة لنجاحها واستمراريتها كتنسيق سياساتها الاقتصادية المستقلة والاستفادة من تكاملها للحد من سيطرة الشركات المتعددة الجنسيات؟
تأتي أهمية التكتلات الاقتصادية كونها تشكل بكل صورها وأشكالها حوالى 75% من دول العالم و 80 % من سكانه وتسيطر على أكثر من 85 % من تجارته، وبالتالي تعكس مدى الآثار التي تحملها التكتلات الاقتصادية على الاقتصاد العالمي.
إنها تعتبر، في جانب مهم من مشروعية التكتلات الاقتصادية، مقدمة لاتحاد سياسي بين الدول المشتركة فيها أو تقديم الدعم السياسي للدول المشتركة. وإذا كان التكتل بين الدول كبيرة وأخرى صغيرة يكون الهدف هو السيطرة سياسياً من قبل الدول الكبيرة على الدول الصغيرة.
يوجد اتجاهان رئيسيان يمكن التمييز بينهما في تعريف التكتل الاقتصادي
الأول: اتجاه عام يعرف التكامل على أنه أي شكل من أشكال التعاون أو التنسيق بين الدول المختلفة دون المساس بسيادة أي منهما.
الثاني: يعرف التكامل بأنه عملية لتطوير العلاقات بين معينة وصولاً إلى أشكال جديدة مشتركة بين المؤسسات والتفاعلات التي تؤثر على سيادة الدولة .
الاتجاه الثاني هو أكثر عمقاً وتحديداً، فالتكامل يعني إزالة جميع العقبات التي كانت تقف كعائق أمام التبادل التجاري بين مجموعة الدول المشتركة في التكتل وتتم إزالة القيود الجمركية وغير الجمركية والعقبات التي تقف في طريق عناصر الإنتاج ورؤوس الأموال ويشكل هذا التكتل منظومة اقتصادية متكاملة ويتم عادة بين الدول المتقاربة في المصالح الاقتصادية أو في الموقع الجغرافي وهو يهدف إلى تحقيق أهداف اقتصادية وسياسية محددة تعود بالنفع على الدولة والتكتل الاقتصادي معاً .
أهم التكتلات الاقتصادية التي تكونت خارج الاتحاد الأوروبي، هي:
1- آسيان
من أهم التكتلات الاقتصادية في قارة آسيا تم إنشاء المنظمة عام 1967 في مدينة بانكوك عاصمة تايلاند من أجل تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة وتشجيع التعاون المتبادل بين الدول والأعضاء والنهوض بمستوى البرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتشجيع التعاون الدولي والإقليمي، ليست الرابطة تكتلاً اقتصادياً مغلقاً إنما هي تكتل اقتصادي مفتوح يقبل في عضويته دولاً أخرى من بلدان جنوب شرق آسيا وتضم الرابطة في عضويتها ( ماليزيا ــ سنغافورة ــ اندونيسيا ــ فيتنام ــ سلطنة بروناي ــ لاوس ــ كمبوديا ــ تايلاند ــ الفلبين ــ بورما ) وأشكال العضوية تتعدد بما يتفق مع مصالح وطموحات الدول.
2- منظمة شنغهاي
ولدت فكرة منظمة شنغهاي في أعقاب الاضطرابات الجيوسياسية الناجمة عن اختفاء الاتحاد السوفيتي وإقامة جمهوريات مستقلة في آسيا الوسطى، فاجتمع فريق شنغهاي نتيجة قلق الصين من تأثير الاضطرابات الأمنية في بعض الدول مثل كازاخستان وقرغيزستان، حيث قامت كل من (كازاخستان، الصين، قيرغيزستان، روسيا، طاجكستان) في السادس والعشرين من شهر نيسان/أبريل عام 1996 بتأسيس منتدى تحت اسم "خماسي شنغهاي" لبناء وتعميق الثقة بين الدول الأعضاء، تجسد بتوقيع تلك الدول خلال لقائها في موسكو في الرابع والعشرين من شهر نيسان/أبريل عام 1997 معاهدة للحد من القوات العسكرية في المناطق الحدودية.
ولكن بعد انضمام أعضاء غيرت اسمها عام 2001 إلى اسمها الحالي وتم توقيع اتفاق بشأن إنشاء منظمة شنغهاى للتعاون في يونيو/حزيران من عام 2001، بين ست دول هي "الاتحاد الروسي، والصين، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان"، كما تضم المنظمة ست دول بصفة مراقب هي "منغوليا، والهند، إيران، وباكستان، وأفغانستان، وبيلاروس". وستة شركاء حوار"سريلانكا، وتركيا، وأرمينيا، وأذربيجان وكمبوديا ونيبال". وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2016 طرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صراحة الانتماء إلى منظمة شنغهاي للتعاون بديلاً محتملاً لانضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي الذي لم يعد خيارها الوحيد، ولا سيما في ظل مماطلة بروكسل وبطء المفاوضات المستمرة على مدى 53 عاما.
وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء قمة منظمة شنغهاي للتعاون في العاصمة الأوزبيكية طشقند: "إيران تشارك بنشاط في عمل المنظمة كدولة مراقبة منذ عام 2005. أعتقد أنه بعد تسوية المشكلة النووية الإيرانية ورفع عقوبات الأمم المتحدة لن تبقى هناك عوائق أمام النظر الإيجابي في طلب طهران (حول الانضمام إلى المنظمة)". وفي قمة المنظمة المنعقدة في العاصمة الأوزبكية طشقند، 24 يونيو/حزيران، أكد بوتين أنه لم تبق هناك أي عوائق أمام انضمام إيران إلى منظمة شنغهاي للتعاون بعد رفع العقوبات عنها. كما أعرب الرئيس الروسي عن أمله في انضمام كل من الهند وباكستان إلى المنظمة في أسرع وقت ممكن قائلا: "نتوقع من شركائنا قطع الطريق بالسرعة القصوى، للقائنا المقبل في كازاخستان عام 2017".
وتهدف المنظمة إلى تقوية الثقة المتبادلة بين الدول الأعضاء فيها وخلق علاقات جوار وصداقة جيدة بين الدول المشاركة وتشجيع الفاعل بين الدول المشاركة في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والزراعية وغيرها وبذل الجهود المشتركة لإحلال السلام والأمن والاستقرار في المنطقة.
تبلغ المساحة الجغرافية للدول الأعضاء في المنظمة 60 بالمائة من مساحة أوروبا وآسيا، وتضم 25 بالمائة من نفوس العالم، وفي هذا السياق، أعلن باختير حاكيموف، الممثل الخاص للرئيس الروسي في المنظمة: "أن حجم الناتج المحلي الإجمالي لستة بلدان منظمة شنغهاي (روسيا، الصين، طاجيكستان، أوزبكستان، كازاخستان وقيرغيزستان) بلغ 12 تريليون دولار، ومع انضمام الهند وباكستان، فإن الرقم سيرتفع إلى 20 تريليون دولار".
3- البريكس
من التكتلات الدولية التي لفتت الانتباه إليها تلك التي أطلقت على نفسها مجموعة بريكس.. فما هي وما أهدافها؟
"بريكس" تجمع فريد أُنشئ عام 2011 ويضم بعضويته خمس دول من ذوات الاقتصادات الناشئة هي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. وكانت تُسمى من قبل مجموعة "بريك" قبل انضمام جنوب أفريقيا إليها عام 2010 ليصبح اسمها "بريكس".
ويعيش في الدول الخمس نصف سكان العالم، ويوازي الناتج الإجمالي المحلي للدول مجتمعة ناتج الولايات المتحدة (13.6 تريليون دولار) ويبلغ مجموع احتياطي النقد الأجنبي لدول المنظمة أربعة تريليونات دولار.
وتمثل مجموعة بريكس أكبر اقتصادات خارج منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي نادي الأغنياء بالنسبة إلى الاقتصادات الناشئة.
ووقع قادة دول البريكس في يوليو/تموز 2014، اتفاقية تأسيس بنك بريكس للتنمية. ورأى خبراء تأسيس هذا البنك خطوة نحو خلق بديل للنظام المالي العالمي "الدولاري" االمقبل.
وكان قد بدأ التفاوض لتشكيل مجموعة "بريك" عام 2006 وعقد أول مؤتمر قمة لها عام 2009.
وربما كانت أهم الإشارات إلى أهمية بريكس للاقتصاد العالمي نصيبها من احتياطيات العملة الأجنبية. وهذه الدول الأربع تعتبر من بين أكبر عشر دول تحتفظ باحتياطيات تبلغ نحو 40% من مجموع احتياطيات العالم.
وتملك الصين وحدها 2.4 تريليوني دولار تكفي لشراء ثلثي شركات مؤشر ناسداك مجتمعة، كما تعتبر ثاني أكبر دائن بعد اليابان.
لكن الأكثر أهمية بالنسبة إلى روسيا - وكما هي الحال بالنسبة إلى الآخرين - أنهم يرون أن المجموعة وسيلة لإخبار الولايات المتحدة أن أكبر الدول النامية لها خياراتها، وأنه ليست كل الطرق تقود إلى واشنطن.
ولهذا السبب هناك من أعضاء الكونغرس الأميركي من نظر إلى "بريكس" نظرة ذعر وخوف، ولعل أهم وأكبر هواجسهم يتمثل في العملة الصينية.
4- أوراسيا
في العام 1994 أعلن الرئيس الكازاخستاني نزار باييف بدء مشروع اتحاد دول أوراسيا، وفق مبادئ أربعة:
- المنفعة الاقتصادية.
- التكامل المتعدد الجوانب.
- توحيد المنظمات السابقة لإقامة الاتحاد.
- توحيد البلدان تبعاً لجهوزية كلٍ منها.
ولعله منذ ذلك الوقت تحولت الأوراسية من مجرد نظرية إستراتيجية إلى تطبيق سياسي له فكر وإيديولوجيا. وأظهر أن الفكر الأوراسي سفينة النجاة المرتجاة للمجتمع الروسي الذي صحت أوساط واسعة فيه على مخاطر الأطلسة لروسيا، كما دغدغت الأوراسية أحلام دول في آسيا الوسطى، للتكتل من جديد للاستقواء أمام الهجمة الأميركية الساحقة في العالم.
والاستقواء هنا، ليس بالمعنى السياسي أو العسكري، وإن كان جزءاً منه، بل الاستقواء الاقتصادي، فالمسألة تتجه إلى حيازة الموارد، وأي اتحاد أوراسي يمكن أن يتشكل سيكون اتحاداً غنياً بالموارد الطبيعية والبشرية والتكنولوجية والصناعية والزراعية.
في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى- السيطرة الأميركية وما يترتب عليها جيواستراتيجياً"، يرى زبيغنيو بريجنسكي المستشار للأمن القومي الأميركي أيام الرئيس جيمي كارتر بين عام1977 و1981، يرى أن أوراسيا ( أوروبا- آسيا) تشكل مكمن التحدي السياسي والاقتصادي للسيادة الأميركية على العالم، وأن قوة أوراسيا تفوق بشكل كاسح قوة أميركا.
جغرافياً، فإن أوراسيا تمتد من حدود أوروبا الغربية على المحيط الأطلسي حتى ضفاف الصين وروسيا على المحيط الهادئ في الشرق. وتضم أوراسيا ثلاثة أرباع مصادر الطاقة في العالم، وهي أكبر قارات العالم، وفيها معظم ثرواته وفيها ست دول ضخمة من الناحية الاقتصادية و العسكرية، والدولتان الأكثر سكاناً هما الصين والهند، والدولة الأكبر مساحة وهي روسيا 17.1 مليون كلم2.
ويعتبر الفكر الأوراسي أن روسيا الممتدة في آسيا وأوروبا هي محور التاريخ، وتدور الحضارة حوله (أي حول روسيا) مكتسبة طاقة خلاّقة. وتتخذ الأوراسية موقفاً من الغرب، والأميركيين بالذات، وكما سوف نرى، يبادلها الأميركيون موقف الخصومة، فإن لهم رؤيتهم الأوراسية الخاصة، ويعلن بريجنسكي في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى (وهي هنا تعني أوراسيا) أن أفضل روسيا بالنسبة للأميركيين هي روسيا غير الموجودة، روسيا المحطمة التي يستغلها جيرانها.
بوتين.. الأوراسي
واتخذ المشروع الأوراسي زخماً جديداً مع وصول فلاديمير بوتين إلى الرئاسة في روسيا. إذ تعتبر روسيا المنطقة حديقتها الخلفية، ومنطقة نفوذها الحصري، حيث خضعت المنطقة للسيطرة الروسية منذ القرن التاسع عشر. يقول بوتين: "إن الطاقة التي تحملها الأفكار الأوراسية تكتسب أهمية فائقة اليوم حين نبني علاقات متساوية حقاً بين بلدان الرابطة" وقد كرر بوتين مراراً أنه لن يكون لأي اتحاد أوراسي وضعية الاتحاد السوفياتي بالمعنى الاستتباعي، بل المساواة بين الدول، والسيادة لكل دولة. إنه مشروع للتكامل الجديد ولتطوير علاقات روسيا مع إيران وتركيا، خاصة وأن مصالح مشتركة تجمع بين هذه الدول.
وقد أعلن بوتين في الأول من تشرين الأول عام 2000 " أن روسيا هي دولة أوراسية" وهذا التعبير على إيجازه يحمل برنامجاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً لسياسة بوتين ولمستقبل روسيا، وقد بادرت روسيا عام 2011 إلى توقيع الاتحاد الجمركي مع بيلاروسيا وكازاخستان، وكان قد تم التوقيع على اتفاقية الأمن الجماعي بين روسيا وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجاكستان وأوزبكستان. "إنه المستقبل الذي يولد اليوم" على حد تعبير الرئيس بوتين، ويشرح في كلام له في الثاني من كانون الثاني 2012 "أن الفضاء الأوراسي المشترك بين بيلاروسيا وكازاخستان وروسيا سيبدأ فعلياً، وستلغى التأشيرات بين هذه البلدان بعد أن ألغيت الإجراءات الجمركية وسيتم لاحقاً اعتماد عملة موحدة على طريقة الاتحاد الأوروبي".
ويرى بوتين أن في هذا الاتحاد تكاملاً لصيقاً على أساس قيمي وسياسي واقتصادي، ويقترح وحدة عابرة وقوية للقوميات من شأنها أن تصبح أحد أقطاب العالم المعاصر. وهنا بيت القصيد، أن يصبح قطباً مؤثراً في العالم المعاصر، والاتحاد الأوراسي ليس أي قطب، إنه قطب كاسح للهيمنة الأمريكية في العالم.
الأوراسية الأميركية!
في هذا الوقت لا نجد غفلة أميركية عن الأهمية الجيوسياسية لأوراسيا، فهذا الأمر لفت انتباه الأميركي، كما سبقت الإشارة منذ العام 1944، في أول قراءة أوراسية للجغرافية السياسية لأوروبا وآسيا، وقد يكون على الأميركيين السعي إلى العمل على خطين:
1ـ خط تفكيك أي تكتل يقوم، يمكن أن يؤشر لأوراسيا مضادة لسياستها في المنطقة.
2ـ خط اجتذاب الجمهوريات في آسيا الوسطى بإغراءات اقتصادية لإبعادها عن أي تكتل معادٍ.
ويظهر مجدداً كتاب "رقعة الشطرنج الكبرى" لزبيغنيو بريجنسكي حيث يرسم خريطة الصراع العالمي، فيقوم بإعادة بلورة الفكر الاستراتيجي الأميركي تجاه الأوراسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، ويرى أن على الولايات المتحدة الأميركية أن تحرم روسيا من ثلاث دول ركائز جيوسياسية مهمة بحكم موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية وهي أوكرانيا، وأوزبكستان وأذربيجان. فإن أوكرانيا تطل على البحر الأسود المؤدي إلى المضائق التركية وعدد سكانها لا يتجاوز الخمسين مليون نسمة، وأي وجود أميركي في أوكرانيا سيمنع روسيا من نشر أساطيلها مؤثرة بذلك على أوروبا وآسيا.