تحكي الميثولوجيا الإغريقية أن البطل الأسطوري" أوديسيوس" قد وجد نفسه ذات مرة مضطراً لقيادة زورقه أمام وحشين رهيبين. وبدلاً من أن يخاطر بفقدان زورقه كله بمن عليه إذا ما مر أمام الوحش" تشاريبديس" فإنه فضل بدلاً من ذلك المرور من أمام الوحش الآخر"سكيلا" والتضحية بجزء من طاقمه فقط.
واليونانيون المحدثون يواجهون مأزقاً مماثلاً يتمثل في ما إذا كانوا سيتحملون إجراءات التقشف المطلوبة من قبل الاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، في مقابل الحصول على حزمة إنقاذ مالي تستخدم لسداد الديون المستحقة للبنوك، وتتيح لهم فرصة البقاء في منطقة "اليورو" في الوقت نفسه ؟... أم أنهم سيرفضون الموافقة على خفض الإنفاق، ويفقدون حزمة الإنقاذ بالتالي، وهو ما سيضطرهم إلى مغادرة اتحاد العملة الأوروبية، والعودة مرة أخرى إلى استخدام الدراخمة، التي تخلوا عنها بفرحة غامرة عام 2001 (بسعر340.75 دراخمة لليورو الواحد)، خاصة بعدما أكدت مجلة "شبيغل" في موقعها الإلكتروني أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مستعدة لأن تترك اليونان تخرج من منطقة اليورو، في صورة ما إذا عارض اليسار الراديكالي سياسة التقشف المالي في هذا البلد.
وجاءت أول ردة فعل للحكومة الألمانية على التقرير الذي نشر في مجلة "شبيغل" من كاتب الدولة الديمقراطي الاجتماعي للشؤون الأوروبية، مايكل روث الذي علق من خلال تغريدة على تويتر قال فيها: "اليونان عضو في منطقة اليورو، ويجب أن يظل كذلك، كما يجب علينا تجنب عواقب سياسية واقتصادية غير مرحب بها بسبب مثل هذه التعليقات".
والسؤال الآن هو: ما هي الآلية التي تترك دولة ما بموجبها منطقة اليورو؟
مؤسسو الاتحاد الأوروبي لم يخطر ببالهم قط أنه سيأتي يوم وتخرج فيه أي دولة عضو من الاتحاد. ونظراً للأهمية الهائلة لاستخدام عملة موحدة، فإن اعتبارها أقوى رمز من رموز الوحدة السياسية – بدليل أنه حتى وقت قريب كانت فكرة خروج اليونان من منطقة "اليورو"، تمثل أمراً يحرم التفكير فيه من الأساس من جانب العواصم الأوروبية.
بالتالي، يمكن القول إنه ليس من المرجح أن تطرد منطقة "اليورو" اليونان مباشرة، لأنه لا يوجد أساس قانوني لذلك من ناحية، ولأن مثل هذا الإجراء سيرسل رسالة خاطئة، وإن كانت أوروبا تستطيع- على الرغم من ذلك- خلق الظروف التي تجبر اليونان على الخروج من تلقاء نفسها. وللحيلولة دون سقوط نظامها المصرفي، ستجد اليونان نفسها مضطرة للتخلي عن "اليورو"، والتحول إلى عملتها الجديدة-القديمة (الدراخمة) حتى تتمكن من توفير الأموال لنظامها المصرفي.
ولو حدث ذلك، فإنه من غير المرجح أن تتمكن من سداد ديونها أبدأ. كيف؟ يوضح "نيكولاس ثيوكاراكيس" أستاذ الاقتصاد في الجامعة الوطنية في أثينا آلية الخروج من منطقة اليورو بشكل مختصر بقوله:"ترك منطقة اليورو يعني ضرورة إعلان إفلاسنا أولاً" ويضيف:"فالحقيقة هي أنه لا توجد أمامنا طريقة لسداد الديون المستحقة علينا باليورو، من خلال استخدام أي عملة أخرى كالدراخمة - على سبيل المثال". هناك سؤالان منطقيان في هذا السياق هما: كيف سيؤثر ذلك على قيمة اليورو؟ وكيف سيتم تحديد قيمة الدراخمة في الأساس؟ لاشك أن حالة عدم اليقين المصاحبة لاحتمال إعلان إفلاس اليونان وخروجها بالتالي من منطقة اليورو ستؤدي إلى إضعاف العملة الأوروبية الموحدة - على الأقل في المدى القصير. أما على المدى الطويل فإن العكس من ذلك هو الذي قد يحدث.
أما الدراخمة فستكون، عندما يعاد استخدامها مرة ثانية، عملة ضعيفة للغاية، إذ ليس هناك الكثير من الاحتياطات المالية الموجودة في الخزينة العامة اليونانية التي يمكن أن تمنح لها قيمة. والتخفيض في قيمة الدراخمة، مقارنة باليورو يمكن أن يصل- بحسب"راوول روبارل" رئيس قسم الأبحاث الاقتصادية في مركز" أوبن يوروب" للدراسات والبحوث في لندن- إلى 50 في المئة، علاوة على أن البنك المركزي اليوناني سيجد نفسه مضطراً لطبع كميات ضخمة من النقود الورقية الجديدة لإبقاء البنوك طافية؛ وهذان العاملان معاً كفيلان بإحداث حالة من التضخم المفرط.
هل من المتوقع أن يكون لخروج اليونان من منطقة "اليورو" تأثير تسلسلي على ما عداه (تأثير يشبه تأثير الدومينو) أم أن الاتحاد الأوروبي سيكون قادراً على وضع نطاق عازل حول اليونان للحيلولة دون انتقال تأثيرها إلى غيرها؟
الإجابة تتمثل في ما يعرف بـ" آلية الاستقرار الأوروبي"، وهو عبارة عن صندوق للإنقاذ سيبدأ العمل في يوليو المقبل بميزانية تبلغ 500 مليار يورو بهدف دعم أوضاع الاقتصادات الأوروبية التي تعاني في الوقت الراهن من تداعيات الأزمة المالية وتحاول البقاء.
على الرغم من ذلك فما تزال هناك مخاوف في أوساط المستثمرين. وهـذه المخاوف تعبر عنهـا "جين فولي" المديرة الاستراتيجية للمبادلات الأجنبية في "رابو بانك"- لندن، التي تقول: "خروج اليونان سيمثل سابقة خطيرة؛ والدليل على ذلك أن هناك أعداداً هائلة من المستثمرين يريدون الخروج من سوق السندات الإسبانية في الوقت الراهن، لأنهم يرون إنه إذا خرجت اليونان من نظام العملة الأوروبية فإن إسبانيا ستكون هي التالية".
وما سيقوم به مسؤولو السياسات في الاتحاد الأوروبي- كما تقول"فولي"- هو أنهم سيحاولون طمأنة العالم بأن الحالة اليونانية هي حالة فريدة من نوعها تحدث مرة واحدة ولا تتكرر. وتضيف" علاوة على أن اليونان لو اختارت الخروج من المنطقة بطريقة منظمة إلى حد كبير فإنه يمكن حينئذ تجنب حدوث عدوى".
وما تأثير خروج اليونان على الأسواق العالمية، وعلى أسواق الولايات المتحدة بشكل خاص؟
سوف يتوقف التأثير على الأسواق العالمية في الدرجة التي يؤثر بها ذلك الخروج على اقتصادات منطقة "اليورو" في المقام الأول. أما بالنسبة إلى الاقتصاد الأميركي الذي يبدو الآن ليس أفضل حالاً - إلى حد ما - مقارنة بما كان عليه الوضع بعد أزمة الرهن العقاري، فإن خروج اليونان سوف يكون تأثيره أشبه بتأثير مطب تخفيف السرعة منه إلى تأثير الحاجز أو السد الذي يحول دون الحركة إلى الأمام.