يعيش الشعب السوري الآن على وقع انتصارات الجيش الذي حرّر المدن السورية في درعا والقنيطر والسويداء ودمشق وحلب وحمص وحماة ودير الزور، من العصابات الإرهابية، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة والمعقدة جداً، في الوقت الذي تستعد فيه الدولة السورية، للانتقال إلى مرحلة سياسية واقتصادية جديدة (مرحلة البناء وإعادة الإعمار)، وهي مُثقلةً بتركة ضخمة، وخسائر اقتصادية كبيرة، من جراء العدوان على أراضيها، والعقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة عليها.
خسائر كبيرة طاولت مختلف القطاعات والبنى، وتجاوزت بحسب بيانات البنك الدولي حدود الـ ( 227) مليار دولار، وهذا يعادل تقريباً أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لعام (2010)، ونحو أحد عشر ضعف الناتج المحلي الإجمالي لعام (2016). الأمر الذي انعكس بصورة سلبية على الموازين المالية للدولة السورية، إذ تجاوز حجم الدين العام الاجمالي، حدود (4.5) تريليون ليرة سورية (بحسب تقديرات الباحثين والمهتمين بالشأن العام الاقتصادي في سورية)، وباتت فيه نسبة كبيرة من المجتمع السوري - تقارب حدود الـ (80%) حسب تقديرات بعض الباحثين أيضاً - تعاني من ظروف حياتية ومعيشية صعبة ومؤلمة، من جراء الانخفاض الحاد والكبير في القوة الشرائية للدخول والمرتبات، الذي يعود بنسبة كبيرة منه، للارتفاعٍ الدراماتيكي في المستوى العام للأسعار، الذي أسهم بقوة في توسيع دوائر الفقر والتهميش في سورية، ودفع بمئات ألوف الشباب السوريين إلى الإحباط واليأس، أو للتفكير بالهجرة أو اللجوء.
يعني ذلك أن الحكومة السورية، تواجه مشكلة اقتصادية متشابكة ومعقدة، على عتبة الدخول في مرحلة إعادة الإعمار، تتعلق بمدى قدرتها على تأمين الموارد المالية اللازمة، للحد من تنامي فجوة الموارد، واحتواء المفاعيل السلبية للعجز المالي الكبير، وتوفير شروط أو مستلزمات النهوض بالواقع الاقتصادي والاجتماعي، وتحسين المستوى المعيشي والحياتي للمواطنين السوريين.
وفي ضوء محدودية الخيارات الداخلية، المتعلقة بالقدرة على تأمين مصادر التمويل والإيرادات، سواء كانت طبيعية (كالضرائب والرسوم وعوائد أملاك الدولة وفوائض القطاع العام...الخ)، أم استثنائية، لم يبق أمام الحكومة، إلا أن تبحث في آلية أو في كيفية صياغة إطار أو فضاء اقتصادي وسياسي وتشريعي / قانوني وثقافي عام، يمكن التأسيس عليه، لخلق بيئة جاذبة للاستثمارات، مُستقطبة لرؤوس الأموال، تساعد في تأمين مصادر تمويل رديفة، يمكن الرهان عليها، كرافعة للنهوض بالواقع الاقتصادي والاجتماعي، وتوفير الشروط الموضوعية اللازمة للبدء في عملية إعادة الإعمار.
وفي هذا السياق، أكد الرئيس السوري بشار الأسد (09.07.2018 ) أن إعادة الإعمار هي أولى الأولويات في سورية تدعمها عودة اللاجئين السوريين ومكافحة الإرهاب حتى تحرير الأراضي السورية كافة مهما كانت الجهة التي تحتلها.
وقال الأسد في حوار مفتوح مع دبلوماسيي وزارة الخارجية والمغتربين في مبنى الوزارة، "إن إعادة الإعمار هي أولى الأولويات في سورية بما يدعمها من الاستمرار في مكافحة الإرهاب حتى تحرير الأراضي السورية كافة مهما كانت الجهة التي تحتلها، وتعديل القوانين والتشريعات بما يتناسب والمرحلة المقبلة، ومكافحة الفساد، وتعزيز الحوار بين السوريين، وعودة اللاجئين الذين غادروا سورية هربا من الإرهاب، وتنشيط المسار السياسي الذي تعرقله بعض الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية".
إلى ذلك شكلت المعارض التي اقيمت في سورية ولبنان وروسيا وأوروبا، إشارة إيجابية إلى الشركات والمؤسسات استعداداً للإعمار، ومنها فعاليات "مؤتمر رجال الأعمال والمستثمرين في سورية والعالم 2018” الذي عقد في قصر المؤتمرات وعلى أرض مدينة المعارض في دمشق خلال تموز الماضي، وبحضور 150 من رجال الأعمال وممثلي الشركات من دول مختلفة حول العالم، وعلى رأسهم العديد من الشركات الروسية، إضافة إلى شركات ورجال أعمال من ألمانيا والسويد وهولندا وبريطانيا والتشيك وقبرص واليابان وفنزويلا وأمريكا وإيران ولبنان وبعض الدول العربية.
كما شكل مؤتمر "الاستثمار في إعادة الإعمار ...كيف - ولماذا"، عقد في بيروت، برعاية وزير الصناعة اللبناني الدكتور حسين الحاج حسن، نافذة مهمة لما يقارب 200 ممثل لمؤسسات وشركات صناعية ومصرفية وشركات البناء ورجال أعمال في مختلف القطاعات الذين حضروا من لبنان وسورية والعراق والأردن وروسيا. وقد حظيت المشاريع الاستثمارية باهتمام المستثمرين وتنوعت أسئلتهم حول الاستثمار.
وفي هذا الإطار لابد من التأكيد أن وجود قانون استثمار مرن، يتضمن في طياته مزايا وحوافز، سيشكل من الناحية العملية مدخلاً هاماً، وكعامل جذب للاستثمارات ورؤوس الأموال، سواء كانت سورية أم غير سورية.
وفي هذا الصدد، استصدرت الحكومات السورية المتعاقبة، في إطار مساعيها أو محاولاتها الرامية إلى جذب الاستثمارات، واستقطاب رؤوس الأموال، الكثير من القوانين والتشريعات ( قانون الاستثمار رقم 10 ، وألحقته بالكثير من التعديلات والبلاغات)، ولكن غالبية تلك القوانين والأجهزة على أهميتها وضرورتها، لم تكن بمستوى الطموح والآمال، ولم تحقق الغايات الاستراتيجية المرجوة منها بالمستوى المنشود، لا اقتصادياً ولا سياسياً ولا اجتماعياً، ويبقى السؤال المطروح إذاً: أين تكمن جذور المشكلة الاقتصادية السورية بصورة عامة، ومشكلة الاستثمار بصورةٍ خاصة؟
إن الاستثمارات الحقيقية التي يمكن الرهان عليها في عملية إعادة الإعمار، هي التي تكون بضمانة المؤسسات والقانون، والبيئة المحكومة بالشفافية والوضوح، والقضاء النزيه والمتوازن، والسياسات الاقتصادية المنسجمة، الواضحة المعالم، المحددة الأهداف والوسائل، وليس بضمانات بعض الأشخاص، أو بعض مراكز القوى. ما يعني أن المساعي التي تستهدف خلق بيئة استثمارية حقيقية جاذبة للاستثمارات، ومستقطبة لرؤوس الأموال، يجب أن تكون جزءاً من عملية إطارية متكاملة، متعددة الأبعاد والمضامين، تستهدف إعادة بناء كيان الدولة السورية على أسس نحديثية، وخصائص معاصرة، كما تستهدف أيضاً استعادة هيبة مؤسسات الدولة المادية والمعنوية، والتي كانت قد تصدعت بفعل الإرهاب، ولعل تجديد حكومة عماد خميس بدماء عدد من الوزراء الجدد في الثامن والعشرين من تشرين الثاني، ستشكل بداية تعبيد طريق إعادة إعمار سورية.